فصل: المقالة الرابعة في المكاتبات:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)



.المقالة الرابعة في المكاتبات:

وفيها بابان:

.الباب الأول في أمور كلية في المكاتبات:

وفيه فصلان:

.الفصل الأول في مقدمات المكاتبات:

وفيه ثلاثة أطراف:

.الطرف الأول في أصول يعتمدها الكاتب في المكاتبات:

ويتعلق المقصود منها بعشرة أصول:
الأصل الأول: أن يأتي الكاتب في أول المكاتبة بحسن الافتتاح:
المطلوب في سائر أنواع الكلام، من نثر ونظم مما يوجب التحسين، ليكون داعيةً لاستماع ما بعده، على ما تقدم بيانه في الكلام على علوم البلاغة في المقالة الأولى.
ويرجع حسن الافتتاح في المكاتبات إلى معنيين.
المعنى الأول أن يكون الحسن فيه راجعاً إلى المبتدإ به. إما الافتتاح بالحمد لله كما في بعض المكاتبات، لأن النفوس تتشوف إلى الثناء على الله تعالى، أو بالسلام الذي جعله الشارع مفتتح الخطاب أو نحو ذلك. وإما بالافتتاح بما فيه تعظيم المكتوب إليه، من تقبيل الأرض أو اليد أو الدعاء له أو غير ذلك. فإن أمر المكاتبات مبنيٌّ على التملق واستجلاب الخواطر وتألف القلوب، إلى غير ذلك مما يجري هذا المجرى، على ما يقتضيه اصطلاح كل زمن في الابتداآت.
المعنى الثاني أن يكون الحسن فيه راجعاً إلى ما يوجب التحسين. من سهولة اللفظ، وصحة السبك، ووضوح المعنى، وتجنب الحشو، وغير ذلك من موجبات التحسين، كما كتب الأستاذ أبو الفضل بن العميد عن ركن الدولة بن بويه، إلى من عصى عليه، مفتتحاً كتابه بقوله: كتابي إليك، وأنا متردد بين طمعٍ فيك وإياسٍ منك، وإقبالٍ عليك وإعراض عنك، فإنك تدل بسالف خدمٍ أيسرها يوجب رعاية، ويقتضي محافظةً وعناية، ثم تشفعها بحادث غلول وخيانة، وتتبعها بألف خلاف ومعصية، أدنى ذلك يحبط أعمالك، ويسقط كل ما يرعى لك.
وكما كتب أبو حفص بن برد الأندلسي عن ملكه إلى من عصى عليه ثم عاد إلى الطاعة كتاباً افتتحه بقوله: أما بعد فإن الغلبة لنا والظهور عليك جلباك إلينا على قدمك، دون عهدٍ ولا عقد يمنعان من إراقة دمك. ولكنا لما وهب الله تعالى لنا من الأشراف على سرائر الرياسة، والحفظ لشرائع السياسة، تأملنا من ساس جهتك قبلنا، فوجدنا يد سياسته خرقاء، وعين خدامته عوراء، وقدم مداراته شلاء، لأنه مال عن ترغيبك فلم ترجه، وعن ترهيبك فلم تخشه، فأدتك حائجتك إلى طلاب المطاعم الدنية، وقلة مهابتك إلى التهالك على المعاصي الوبية. ونحو ذلك من الافتتاحات البهجة، والابتداآت الرائقة، مما ستقف على الكثير منه في خلال هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
الأصل الثاني: أن يأتي في ابتداء المكاتبة ببراعة الاستهلال:
المطلوبة في كل فن من فنون الكلام بأن يأتي في صدر المكاتبة بما يدل على عجزها، فإن كان الكتاب بفتح، أتى في أوله بما يدل على التهنئة، أو بتعزية أتى في أوله بما يدل على التعزية، أو في غير ذلك من المعاني أتى في أوله بما يدل عليه، ليعلم من مبدإ الكتاب ما المراد منه. كما يحكى أن عمرو بن مسعدة كاتب المأمون أمر كاتبه أن يكتب إلى الخليفة كتاباً يعرفه فيه أن بقرةً ولدت عجلاً وجهه وجه إنسان، فكتب: أما بعد حمد الله خالق الأنام، في بطون الأنعام. وفضلاء الكتاب وأئمتهم يعتنون بذلك كل الاعتناء، ويرون تركه إخلالاً بالصنعة، ونقصاً في الكتابة، حتى أن الوزير ضياء الدين بن الأثير في المثل السائر قد عاب أبا إسحاق الصابي على جلالة قدره في الكتابة، واعترافه له بالتقدم في الصناعة، بكتابٍ كتبه بفتح بغداد وهزيمة الترك فقال في أوله:
الحمد لله رب العالمين، الملك الحق المبين، الوحيد الفريد، العلي المجيد، الذي لا يوصف إلا بسلب الصفات، ولا ينعت إلا برفع النعوت، الأزلي بلا ابتداء، الأبدي بلا انتهاء، القديم لا منذ أمدٍ محدود، الدائم لا إلى أجل معدود، الفاعل لا من مادةٍ امتدها، الصانع لا بآلةٍ استعملها، الذي لا تدركه الأعين بألحاظها، ولا تحده الألسن بألفاظها، ولا تخلقه العصور بمرورها، ولا تهزمه الدهور بكرورها، ولا تجاريه أقدام النظراء والأشكال، ولا تزاحمه مناكب القرناء والأمثال، بل هو الصمد الذي لا كفء له، والفرد الذي لا توءم معه، والحي الذي لا تخترمه المنون، والقيوم الذي لا تشغله الشؤون، والقدير الذي لا تؤوده المعضلات، والخبير الذي لا تعييه المشكلات ثم قال: إن هذه التحمية لا تناسب الكتاب الذي افتتحه بها، ولكنها تصلح أن توضع في صدر مصنف من مصنفات أصول الدين ككتاب الشامل للجويني، أو كتاب الاقتصاد للغزالي، وما جرى مجراهما. فأما أن توضع في أول كتاب فتح فلا.
واعلم أن براعة الاستهلال في المكاتبات قد تقع مع الابتداء بالتحميد، كما في كتاب عمرو بن مسعدة المتقدم ذكره، وكما كتب إبو إسحاق الصابي عن الطائع إلى بعض ولاة الأطراف، عند زوال الوحشة بينه وبين الأمراء، ووقوع الصلح والاتفاق: أما بعد، فالحمد لله ناظم الشمل، بعد شتاته، وواصل الحبل، بعد بتاته، وجابر الوهن إذا انثلم، وكاشف الخطب إذا أظلم.
وقد تقع مع الابتداء بالتقبيل كما كتبت إلى بعض الرؤساء بثغر الإسكندرية، ملوحاً إلى التعبير عنه بالثغر، وعن الريح التي تهب عليه من جانب البحر بالملثم، وعن مستنزهٍ من مستنزهاته بالرمل، وعن المساكن التي به بالقصور، مع قربه من البحر، ومناسبة ذكر النسيم بالثغر بما صورته: يقبل أرض ثغر قد رق ملثمه، وراق مبسمه، باثاً لشكرٍ يعترف الرمل بالقصور عن حده، وتقف أمواج البحر المحيط دون غيره.
وقد تقع مع الابتداء بالدعاء، وتكون براعة الاستهلال في الدعاء المعطوف على المبتدإ به، بأن يكون الدعاء مناسباً للحالة المكتوب فيها، كما نبه عليه صاحب المثل السائر وغيره، وسيأتي الكلام على أمثلة ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى.
ثم من المكاتبات ما يعسر معه الإتيان ببراعة الاستهلال فيما يلي ذلك من الكلام في مقدمة المكاتبة قبل الخوض في المقصود ولا يهملها جملة. على أن الشيخ شهاب الدين محموداً الحلبي، رحمه الله، قد ذكر في كتابه حسن التوسل أنه إن عسر عليه براعة الاستهلال، أتى بما يقارب المعنى. وبكل حال فإذا أتى ببراعة استهلالٍ في أول مكاتبته استصحبها إلى الفراغ من الخطبة إن كان الكتاب مفتتحاً بخطبة، وإلا استصحبه إلى الفراغ من مقدمة الكتاب الآتي بيانها.
الأصل الثالث: أن يأتي في المكاتبة المشتملة على المقاصد الجليلة بمقدمة يصدر بها تأسيساً لما يأتي به في مكاتبته:
مثل أن يأتي في صدور كتب الحث على الجهاد بذكر افتراضه على الأمة، وما وعد الله تعالى به من نصر أوليائه، وخذلان أعدائه، وإعزاز الموحدين، وقمع الملحدين. وفي صدور كتب الفتح بإنجاز وعد الله الذي وعده أهل الطاعة من النصر والظفر، وإظهار دينه على الدين كله. وفي صدور كتب جباية الخراج، يصدر بحاجة قيام الملك وأس السلطنة إلى الاستعانة بما يستخرج من حقوق السلطان في عمارة الثغور، وتحصين الأعمال، وتقوية الرجال، ونحو ذلك مما يجري على هذا النمط مما سيأتي بيانه في مقاصد المكاتبات في الكلام على الابتداآت والجوابات فيما بعد إن شاء الله تعالى.
فقد قيل: إنه لا يحسن بالكاتب أن يخلي كلامه وإن كان وجيزاً من مقدمة يفتتحه بها وإن وقعت في حرفين أو ثلاثة، ليوفي التأليف حقه. قال في مواد البيان: وعلى هذا السبيل جرت سنة الكتاب في جميع الكتب كالفتوح، والتهاني، والتعازي، والتهادي، والاستخبار، والاستبطاء، والإحماد، والإذمام، وغيرها، ليكون ذلك بساطاً لما يريد القول فيه، وحجةً يستظهر بها السلطان، لأن كل كلام لا بد له من فرش يفرش قبله: ليكون منه منزلة الأساس من البنيان.
قال: ويرجع في هذه المقدمات إلى معرفة الكاتب ما يستحقه كل نوع من أنواع الكلام من المقدمات التي تشاكلها. ثم قال: والطريق إلى إصابة المرمى في هذه المقدمات أن تجعل مشتملةً على ما بعدها من المقاصد والأغراض، وأن يوضع للأمر الخاص مقدمةٌ خاصة، وللأمر العام مقدمةٌ عامة، ولا يطول في موضع الاقتصار، ولا يقصر في موضع الإيجاز، ولا يجعل أغراضها بعيدة المأخذ، معتاصةً على المتصفح، وذلك أن الكاتب ربما قصد إظهار القدرة على الكلام والتصرف في وجوه المنطق، فخرج إلى الإملال والإضجار الذي تتبرم، منه النفوس، ولا سيما نفوس الملوك وذوي الأخطار الجليلة.
أما الأمور التي لا تشتمل على المقاصد الجليلة، كرقاع التحف والهدايا ونحوهما. فقد ذكر في مواد البيان أنه لا يجعل لها مقدمةٌ تكون أمامها، فإن ذلك غير جائز ولا واقع موقعه. قال: ألا ترى أنهم استحسنوا قول بعضهم في صدر رقعة مقترنةٍ بتحفة في يوم مهرجان أو نحوه: هذا يومٌ جرت فيه العادة، بأن تهدي فيه العبيد إلى السادة، واستظرفوا الكاتب لإيجازه وتقريب المأخذ.
الأصل الرابع: أن يعرف الفرق بين الألفاظ المستعملة في المكاتبات فيضعها في مواضعها:
قال في ذخيرة الكتاب: يجب على الكاتب الرئيس أن يعرف مرتبة الألفاظ ومواقعها، ليرتبها ويفرق بينها فرقاً يقفه على الواجب وينتهي به إلى الصواب، فيخاطب كلا في مكاتبته بما يستحقه من الخطاب، فإنه قبيحٌ به أن يكون خطابه أولاً خطاب الرئيس للمرؤوس، ويتبع ذلك بخطاب المرؤوس للرئيس، أو يبدأ بخطاب المرؤوس للرئيس ثم يتبعه بخطاب الرئيس للمرؤوس.
قال: ومتى استمر الكابت على هذه المخالفة من الألفاظ والمناقضة، نقصت المعاني، ورذلت الألفاظ، وسقطت المقاصد، وكان الكاتب قد أخل من الصناعة بمعظمها، وترك من البلاغة غاية محكمها. بل يجب أن يبدأ بخطاب رئيسٍ أو نظير أو مرؤوس، ويكون ما يتخلل مكاتبته من الألفاظ على اتساق إلى آخرها واطرادٍ من غير مخالفة بينها ولا مضادةٍ ولا مناقضةٍ.
فمن ذلك الفرق بين أصدرنا هذه المكاتبة أو أصدرناها، وبين أصدرت، وبين صدرت. فأصدرناها أعلى بالنسبة إلى المكتوب إليه، للتصريح فيها بالضمير العائد على الرئيس التي صدرت المكاتبة عنه، إذ الشيء يشرف بشرف متعلقه. ويلي ذلك في الرتبة أصدرت، لاقتضائها إصداراً في الجملة، والإصدار لا بد له من مصدر، وذلك المصدر هو الرئيس الصادرة عنه في الحقيقة. وإنما كانت دون الأولى للتصريح بالضمير هناك دون هنا. ودون ذلك في الرتبة صدرت لاقتضاء الحال صدورها بنفسها دون دلالةٍ على المصدر أصلاً.
ومن ذلك الفرق بين ونبدي لعلمه وبين وتوضح لعلمه: فنبدي لعلمه أعلى بالنسبة إلى المكتوب إليه، لأن الإبداء يرجع في المعنى إلى إظهار شئٍ خفي، والإيضاح يرجع إلى بيان مشكل، وحصول الأشكال المحتاج إلى الإيضاح ربما دل على بعد فهم المخاطب عن المقصود، بخلاف إظهار الخفي فإنه لا ينتهي إلى هذا الحد.
ومن ذلك الفرق بين علمه الكريم وبين علمه المبارك فالكريم أعلى من المبارك، لأن في الكريم عراقة أصل وشرف قد توجد في المبارك وقد تتخلف عنه.
ومن ذلك الفرق بين ومرسومنا لفلان بكذا وبين والمرسوم له بكذا، فمرسومنا أعلى بالنسبة إلى المكتوب عنه لاشتماله على نون الجمع المقتضية للتعظيم، ولذلك اختصت بالملوك دون غيرهم، بخلاف والمرسوم له بكذا فإنه عارٍ عن ذلك.
ومن ذلك الفرق بين والمسؤول وبين المستمد: فإن المسؤول أعلى بالنسبة إلى المكتوب إليه، فإن المسؤول يتضمن نوع ذلةٍ بخلاف الاستمداد فإنه لا يستلزم ذلك.
ومن ذلك الفرق بين بلغنا وبين أنهي إلى علمنا وبين اتصل بنا. فاتصل بنا أعلى من أنهي إلى علمنا، لما في معنى الاتصال من التلاصق، بخلاف الإنهاء، وأنهي إلى علمنا أعلى من بلغنا، لأن البلوغ قد يكون على لسان آحاد الناس.
ومن ذلك الفرق بين أنهي فلان كذا وبين عرفنا كذا: فعرفنا أعلى بالنسبة إلى رافع الخبر، لأن في التعريف مزية قربٍ من الرئيس، بخلاف الإنهاء فإنه لا يقتضي ذلك.
ومن ذلك الفرق بين وردت مكاتبته وبين ودرت علينا مكاتبته، فوردت علينا أعلى بالنسبة إلى صاحب المكاتبة الواردة، لتخصيصها بالورود على الرئيس بخلاف الورود المطلق.
ومن ذلك الفرق بين عرضت علينا مكاتبتك وبين وقفنا على مكاتبتك فوقفنا أعلى بالنسبة إلى صاحب المكاتبة، لأن الوقوف عليها يكون بنفسه، والعرض يكون من غيره.
ومن ذلك الفرق بين وشكرت الله تعالى على سلامته وبين وتوالى شكري لله تعالى، فتوالى شكري أعلى بالنسبة إلى المكتوب إليه، لما فيه من معنى التكرار ومزيد الشكر المعدوق بالاحتفال.
ومن ذلك الفرق بين ورغبت إلى الله تعالى وبين وضرعت إلى الله تعالى، فضرعت أعلى من رغبت، لما في الضراعة من مزيد التأكيد في الطلب، بخلاف الرغبة فإنها لا تبلغ هذا المعنى.
ومن ذلك الفرق بين وقابلت أمره بالطاعة وبين وامتثلت أمره بالطاعة، فامتثلت أمره أعلى من قابلت أمره، لما في الامتثال من معنى الإذعان والانقياد، بخلاف المقابلة.
ومن ذلك الفرق بين وشفعت له، وبين وسألت فيه، فالسؤال أعلى في حق المسؤول من الشفاعة، لما في الشفاعة من رفعة المقام المؤدي إلى قبول الشفاعة.
ومن ذلك الفرق بين وخاطبت فلاناً في أمره وبين وتحدثت في أمره، فتحدثت أشد في تواضع المتكلم من خاطبت، لأن الخطاب من الألفاظ الخاصة التي لا يتعاطاها كل أحد بخلاف التحدث.
ومن ذلك الفرق بين تشريفي بكذا وبين إسعافي بكذا وبين إتحافي بكذا فالإسعاف أعلى رتبةً من التشريف لما فيه من دعوى الحاجة والفاقة إلى المطلوب، بخلاف التشريف، وإتحافي دون تشريفي، لأن الإتحاف قد لا يقتضي تشريفاً.
ومن ذلك الفرق بين قوله: نزل عنده وبين قوله: نزل بساحته، فالساحة أعلى لما فيها من معنى الفسحة والاتساع.
ومن ذلك الفرق بين فيحيط علمه بذلك وبين فيعلم ذلك، فيحيط علمه أعلى من يعلم ذلك، لأن في قوله فيحيط علمه بذلك نسبته إلى سعة العلم، لما فيه من معنى الإحاطة بخلاف فيعلم ذلك.
الأصل الخامس: أن يعرف مواقع الدعاء في المكاتبات فيدعو بكل دعاءٍ في موضعه:
ويتعلق النظر فيه بستة أوجه:
معرفة مواقع الدعاء في المكاتبة:
الأول: أن يعرف مراتب الدعاء:
ليوقعها في مواقعها ويوردها في مواردها ويتأتى ذلك في عدة أدعية.
منها الدعاء بإطالة البقاء، والدعاء بإطالة العمر، فالدعاء بإطالة البقاء أرفع من الدعاء بإطالة العمر، وذلك أن البقاء لا يدل على مدة تنقضي لأنه ضد الفناء، والعمر يدل على مدة تنقضي، ولذلك يوصف الله تعالى بالبقاء ولا يوصف بالعمر. قال في مواد البيان: ومن هنا جعل الدعاء بإطالة البقاء أول مراتب الدعاء وخص بالخلفاء، وجعل ما يليه لمن دونهم، ويتلوه الدعاء بالمد في العمر، فيكون دون الدعاء بالإطالة، لأن الوصف بطول الزمان أبلغ من الوصف بالمد فيه من حيث إن المد قابلٌ للمدة الطويلة والمدة القصيرة، ولذلك صارت مرتبة الطول أقرب إلى مرتبة البقاء من مرتبة المد.
ومنها الدعاء بدوام النعمة، والدعاء بمضاعفتها، فالدعاء بالمضاعفة أعلى، لأن الدوام غايته استصحاب ما هو عليه، والمضاعفة مقتضيةٌ للزيادة على ذلك.
ومنها الدعاء بعز الأنصار، وبعز النصر، وبعز النصرة. وقد اصطلح كتاب الزمان على أن جعلوا أعلاها بعز الأنصار، لأن عز أنصاره عزٌّ له بالضرورة مع ما فيه من تعظيم القدر ورفعة الشأن، إذ الأنصار لا تكون إلا لملكٍ عظيم أو أميرٍ كبير. والدعاء بعز النصر أعلى من الدعاء بعز النصرة، لما في الأولى من معنى التذكير وهو أرفع رتبةً من التأنيث. على أنه لو جعل الدعاء بعز النصر أعلى من الدعاء بعز الأنصار، لكان له وجه، لما في عز النصر من الغناء عن عز الأنصار.
ومنها الدعاء بعز الأحكام، والدعاء بتأييد الأحكام، فالدعاء بعز الأحكام أعلى، لأن المراد بالتأييد التقوية، فقد توجد القوة ولا عز معها.
وينبغي للكاتب أن يحترز في تنزيل كل أحدٍ من المكتوب إليهم منزلته في الدعاء، فلا ينقص أحداً عن حقه، ولا يزيده فوق حقه، فقد قال في مواد البيان: إن الملوك تسمح ببدرات المال ولا تسمح بالدعوة الواحدة.
الثاني: أن يعرف ما يناسب كل واحد من أرباب المناصب الجيلة من الدعاء فيخصه به:
فيأتي بالدعاء في المكاتبة للملوك بإطالة البقاء، ودوام السلطان، وخلود الملك، وما أشبه ذلك.
ويأتي في المكاتبة إلى الأمراء بالدعاء بعز الأنصار، وعز النصر، ومضاعفة النعمة، ومداومتها وما شاكل ذلك. على أن ابن شيث قد ذكر في معالم الكتابة أن الدعاء بعز النصر ومضاعفة الاقتدار كان في الدولة الأيوبية مما يختص بالسلطان دون غيره.
ويأتي في المكاتبات للوزراء من أرباب الأقلام ومن في معناهم بالدعاء بسبوع النعماء، وتخليد السعادة، ودوام المجد، وما يضاهي ذلك.
ويأتي في المكاتبات للقضاة والحكام بالدعاء بعز الأحكام، وتأييد الأحكام وما يطابق ذلك.
ويأتي في المكاتبة إلى التجار بالدعاء بمزيد الإقبال، وخلود السعادة وشبه ذلك.
ويأتي في المكاتبة في الإخوانيات ومكاتبات النظراء من الدعاء بما يقتضيه الحال بينهم من الود والإدلال، بحسب ما يراه الكاتب ويؤدي إليه اجتهاده. قال في مواد البيان: وقد كانوا يختارون في الدعاء للأدباء، أبقاك الله، وأكرمك الله. وفي الدعاء للابن والحرمة أبقاك الله وأمتع بك.
أما أهل الكفر فقد اصطلحوا على الدعاء لهم بطول البقاء وما في معناه. أما جواز أصل الدعاء لهم فلم روي أن النبي صلى الله عليه وسلم، استسقى فسقاه يهودي، فقال له: جملك الله، فما رؤي الشيب في وجهه حتى مات، فدل على جواز الدعاء للكافرين بما لا ضرر فيه على المسلمين ما لم تنضم إليه قوة ونحو ذلك، بل ربما كان في طول بقائه حمل جزية أوغنيمةٌ أو ثواب جهادٍ ونحو ذلك. وقد حكى أبو جعفر النحاس في صناعة الكتاب أن الشافعي، رضي الله عنه، قال لنصراني: أعزك الله! فعوتب في ذلك، فقال... واعلم أنه يجب مع ذلك أن يعرف مرتبة المكتوب إليه من الدعاء، فيدعو بعز الأنصار لواحدٍ، ويدعو بعز النصر لمن دونه، لأن عز الأنصار مستلزم لعز النصر. على أنه لو قيل: إن عز النصر أعلى لكونه دعاءً لنفس الشيء بخلاف الدعاء بعز الأنصار فإنه دعاءٌ لشيء خارجي لكان له وجه. ويدعو بعز النصرة لمن دون من يدعى له بعز النصر، لأن النصر مذكرٌ ورتبة التذكير أعلى من رتبة التأنيث. ويدعو بدوام النعمة لواحد بمضاعفة النعمة لمن دونه، لأن الصيغة تقتضي مزيداً على القدر الحاصل، بخلاف الدوام فإنه يقتضي استصحاب القدر الحاصل فقط، وعلى هذا النهج. قال في معالم الكتابة: ولا يكتب عن السلطان إلى أحدٍ ممن في ممالكه بلا زال، ولا برح، بل يختص ذلك بملكٍ مثله. قال: ولا حرج في الكتابة بذلك عن السلطا إلى ولده إذا كان نائباً عنه في الملك. قال: وكذلك لا يدعو الأعلى للأدنى بلا زال، ولا برح.
قلت: والذي استقر عليه الحال الكتابة عن السلطان بذلك لأكابر النواب، ويكتب به أكابر الدولة بعضهم إلى بعض.
الثالث: أن يعرف ما يناسب كل حالة من حالات المكاتبات فيأتي لكل حالة بما يناسبها من الدعاء:
قال في مواد البيان: يبغي أن تكون الأدعية دالةً على مقاصد الكتاب، فإن كان في الهناء كان بما راجت معرفته، وإن كان في العزاء كانت مشتقةً من وصفه، وكذلك سائر فنون المكاتبات، فإنه متى خرج الدعاء عن المناسبة وباين المقصود، خرج عن جادة الصناعة وتوجه اللوم على الكاتب، لاسيما إذا أتى بما يضاد المراد. كما حكى أبوهلال العسكري في الصناعتين أن بعضهم كتب إلى محبوبته: عصمنا الله وإياك مما يكره. فكتبت إليه: يا غليظ الطبع، إن استجيب لك لم نلتق أبداً.
ويختلف الحال في ذلك باختلاف حال المكاتبات، فتارةً تكون اعتبار الشيء المكتوب بسببه. كما يكتب في معنى البشارة بجلوس الملك على تخت الملك: لا زال أمره! وأمتعه من البشائر بما يتوضح على جبين الصباح بشره، وما يترجح على ميزان الكواكب قدره، وما ينفسح من أوقات أمنٍ لايختلف فيها زيده وعمره.
وكما يكتب في البشرى بفتح: ولا زالت آيات النصرتتلى عليه من صحف البشائر، ونفائس الظفر تجلى على سره في أسعد طائر، وفواتح الفتح تزهى به الأسرة وتزهو بنوره المنابر.
وكما يكتب في التهنئة بعافية، ولا برح في برد الصحة رافلاً......... بعزمه وحزمه كافلاً، والإقبال لجنابه العالي بالهناء بعافيته واصلاً.
وتارة تكون باعتبار حال المكتوب إليه التي هو بصددها.
كما يكتب لمن خرج إلى الغزو: وحفه بلطفه فلا يخيب، وهيأ له النصر والفتح القريب، وجعل على يديه دمار الكفار حتى لا يبقى لهم بشدة بأسه من السلامة نصيب.
وكما يكتب إلى من خرج إلى الصيد: وأمتعة بصيوده، وجعل الأقدار من جنوده، وأراه من مصارعأعدائه بسيوفه ورماحه ما يراه من مصارع صيده ببزاته وفهوده.
وكما يكتب لمن خرج في سفر: وقضى بقرب رجعته، وجعله كالهلال في مسيره سبب رفعته، وسكن بقدومه أشواق أوليائه وأهل محبته.
وكما يكتب لمن خرج لتخضير البلاد: وألبس البلاد بقدومه أخضر الأثواب، وأحله أشرف محل وأخصب جناب.
وتارة تكون باعتبار وظيفة المكتوب إليه التي هو قائم بها.
كما يكتب إلى كافل المملكة: ولا زالت كفاية كفالته تزيد على الآمال، وتتقرب إلى الله تعالى بصالح الأعمال، وتكفل ما بين أقصى الجنوب وأقصى الشمال.
وكما يكتب إلى قاضٍ: وفصل بين الخصوم بأحكامه المسددة، وأقضيته التي بها قواعد الإسلام ممهدة، وأبنية الشرع المطهر وأركانه مشيدة.
وكما يكتب إلى متصوف: وأعاد من بركات تهجداته، وأنار الليالي بصالح دعواته.
وتارة تكون باعتبار بلد المكتوب إليه وناحيته.
كما يكتب إلى نائب الشام: ولا زال النصر حلية أيامه وشامة شامه، وغمام ما يلحق على بلده المخصب من غمامه.
وكما يكتب إلى نائب حلب في زمن الحروب: ولا زال يعد ليومٍ تشيب فيه الولدان، ويصد دونه كل محارب بين الشهباء والميدان، ويعم حلب من حلى أيامه مالا يفقد معه إلا اسم ابن حمدان، ونحو ذلك مما ينخرط في هذا السلك.
وتارة تكون باعتبار اسم المكتوب إليه أو لقبه.
كما يكتب إلى من لقبه سيف الدين: ولا زال سيفه في رقاب أعدائه مغمداً، وحده يذر كل ملحد ملحداً.
وكما يكتب إلى من لقبه عز الدين: ولا زال عزه دائماً، والزمان في خدمته قائماً، وطرف الدهر عن مراقبة سعادته نائماً.
وكما يكتب إلى من لقبه شمس الدين: ولا زالت شمس سعادته مشرقة، وأغصان فضله بالعوارف مورقة، وعيون طوارق الغير عنه في كل زمن مطرقة.
وكما يكتب إلى من لقبه ناصر الدين: ونصر عزائمه، وشكر مكارمه، ووفر من الحسنات مغانمه. إلى غير ذلك من الأمور التي ستقف على الكثير منها من الكلام على مقاصد المكاتبات إن شاء الله تعالى.
الرابع: أن يعرف مواضع الدعاء على المكتوب إليه ومن الذي يصرح بذلك في المكاتبة إليه:
وقد ذكر ابن شيث في معالم الكتابة أن الدعاء على الأعداء في صدور الكتب كان من عوائد مكتبة الأدنى إلى الأعلى، مثل: وقصم، وأذل، وقهر، وخضد. وكذلك المماثل والمقارب، فأما من الأعلى إلى الأدنى فلم يكن ذلك معروفاً عند المتقدمين، لا سيما إذا كان الكتاب عن السلطان. ثم قال: ولكن قد أفلت الحبل في ذلك إلى أن قال: ولا يقال للأدنى غير كبت عدوه، أو ضده، أو حسوده خاصة.
ومنها أن يعرف ما كرهه الكتاب من الدعاء فيتجنبه. وهو على ضربين:
الضرب الأول: ما كرهوه في المكاتبة إلى كل أحد:
قال في مواد البيان: كانت عادتهم جاريةً أن يتجنبوا من الأدعية مالا محصول له، كقولهم: جعلني الله فداك، وقدمني إلى السوء دونك، لما في ذلك من التصنع والملق الذي لا يرضاه السلطان، لأن نفس الداعي لا تسمح باستجابته. ويؤيد ما ذكره ما كتب به ابن عبد كان إلى بعض أصدقائه: جعلت فداك على الصحة والحقيقة، لا على مجرى المكاتبة ومذهب العادة. قال في مواد البيان: وإنما يحسن ذلك، من الخواص الذين يتحققون أن بقاءهم معذوقٌ ببقاء رؤسائهم، وثبات نعمهم مقرونٌ بثبات أيام سلاطينهم، لأنه يصدر عن عقائد مستحكمة من بذل الأنفس دونهم. وما ذهب إليه من كراهة ذلك قد نقل في صناعة الكتاب مثله عن مالك بن أنس، واحتج له بما روي عن الزبير رضي الله عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: جعلت فداك فقال له: «أما تركت أعرابيتك بعد!» ارم فداك أبي وأمي وبما روي عن ابن عباس، رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن؟ قال نعم جعلني الله فداك!» ولم ينكر عليه، ونحو ذلك، وفي معنى ذلك كل ما يجري هذا المجرى ونحوه.
الضرب الثاني: ما تختص كراهته بالبعض دون البعض:
وهو نوعان:
النوع الأول ما يختص بالرجال، فمن ذلك ما ذكره في مواد البيان أنهم كانوا لا يستحسنون الدعاء بالإمتاع نحو أمتع الله بك وأمتعني الله بك في حق الإخوان. ومما يحكى في ذلك أن محمد بن عبد الملك الزيات، كتب إلى عبد الله بن طاهر في كتاب: وأمتع بك، فكتب إليه عبد الله بن طاهر [منسرح]
أحلت عما عهدت من أدبك ** أم نلت ملكاً فتهت في كتبك

أتعبت كفيك في مكاتبتي ** حسبك مما يزيد في تعبك

إن جفاءً كتاب ذي مقةٍ ** يكون في صدره وأمتع بك

فأجابه محمد بن عبد الملك الزيات معتذراً بقوله: [منسرح]
كيف أخون الإخاء يا أملي ** وكل شيءٍ من سببك

إن يك جهلٌ أتاك من قبلي ** فعد بفضل علي من أدبك

على أن في كراهة الدعاء للإخوان بذلك نظراً فسيأتي في الكلام على ترتيب المكاتبات على سبيل الإجمال أن أم حبيبة بنت أبي سفان زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: اللهم أمتعني بزوجي رسول الله، صلى الله عليه وسلم وبأبي أبي سفيان، وبأخي معاوية في حديث طويل يأتي ذكره هناك إن شاء الله تعالى.
أما الدعاء بالإمتاع للأتباع، فقد أجازه جماعةٌ من محققي الكتاب، محتجين على ذلك بأنه، صلى الله عليه وسلم لأبي اليسر: كعب بن عبيد الله بقوله «اللهم أمتعنا به». قال ابن عفير: فكان آخر أهل بدرٍ وفاةً، مات سنة خمس وخمسين من الهجرة.
النوع الثاني ما يختص بالنساء. فقد ذكر أبو جعفر النحاس أنه لا يقال في مكاتبتهن وأدام كرامتك ولا وأتم نعمته عليك ولكن لديك، ولا فضله عندك ولا وأدام سعادتك. أما منع الدعاء لهن بالكرامة، فلما حكى محمد بن عمر المدائني أن بعض عمال زبيدة كتب إليها كتاباً بسبب ضياع لها فوقعت له على ظهر كتابه: أردت أن تدعو لنا فدعوت علينا، فأصلح خطأك في كتابك وإلا صرفناك عن جميع أعمالك! فأدركه القلق، وجعل يتصفح الكتاب ويعرضه على الكتاب فلا يجد فيه شيئاً، إلى أن عرضه على بعض أهل المعرفة فقال: إنما كرهت دعاءك في صدر كتابك بقولك: وأدام كرامتك، لأن كرامة النساء دفنهن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دفن البنات من المكرمات» فغير ذلك الحرف من كتابه وأعاده إليها فوقعت له على ظهره أحسنت ولا تعد، وأما كراهة وأتم نعمته عليك وإبدال ذلك بلفظ وأتم نعمته لديك، فكأنه لما يلمح فيه من ذكر العلو على النساء. وأما منع وأتم فضله عندك، أو وأتم سعادتك فيحتاج إلى تأمل.
الخامس أن يتجنب الخلاف في الدعاء في فصول الكتاب، ولا يوالي بين دعوتين منه متفقتين. فأما الخلاف في الدعاء، فقال أبو جعفر النحاس: هو مثل إن يقول: أطال الله بقاء سيدي بلفظ الغيبة، ثم يقول بعد ذلك: وبلغك أملك بلفظ الخطاب. وأما الموالاة بين دعوتين ولا يأتي بهما متفقتين، فقال في مواد البيان: هو مثل حرس الله الأمير أعزه الله ثم يقول في الفصل الذي بعده: أعزه الله تعالى، وما أشبه ذلك.
السادس أن يتجنب وقوع اللبس في الدعاء. فإذا ذكر الرئيس مع عدوه مثلاُ، لم يدع للرئيس حينئذ، فإنه لو ذهب يقول وقد كان من عدو سيدي أبقاه الله كذا، لاحتمل عود الدعاء إلى الرئيس وإلى عدوه فيقع اللبس: أما إذا ذكر الرئيس وحده كما إذا قال: وقد كنت عرفت سيدي أبقاه الله كذا فإنه لا التباس.
الأصل السادس أن يعرف ما يناسب المكتوب إليه من الألقاب فيعطيه حقه منها:
ويتعلق الغرض من ذلك بثلاثة أمور:
أحدها: أن يعرف ما يناسب من الألقاب الأصول المتقدمة الذكر في المقالة الثالثة عند الكلام على الألقاب المصطلح عليها بحسب ذلك الزمان، كالمقام، والمقر، والجناب، والمجلس في زماننا، فيعطي كل أحد من المكتوب إليهم ما يليق به من ذلك، فيجعل المقام لأكابر الملوك، والمقر لمن دونهم من الملوك، وللرتبة العليا من أهل المملكة. والجناب للرتبة الثالثة من الملوك والرتبة الثانية من أهل الدولة. والمجلس للرتبة الرابعة من الملوك والرتبة الثالثة من أهل الدولة. ومجلس الأمير لمن دون ذلك من أهل الدولة على المصطلح المستقر عليه الحال.
الثاني أن يعرف ما يناسب كل لقب من الألقاب الأصول من الألقاب والنعوت التابعة لذلك، فيتبع كل واحد من الأصول بما يناسبه من الفروع.
الثالث أن يعرف مقدار المكتوب إليه، فيوفيه قسطه من الألقاب في الكثرة والقلة بحسب ما يجري عليه الاصطلاح. فقد ذكر في معالم الكتابة أن السلطان لا يكثر في المكاتبة إليه من نعوته، بل يقتصر على الأشياء التي تكون فيه مثل العالم العادل. أما غير ذلك فيقع باللقبين المشهورين وهما نعته المفرد، ونعته المضاف إلى الدين. وأنه في الكتابة عن السلطان كلما زيد في النعوت كل أمير، لأنها على سبيل التشريف من السلطان، ويجعل المضاف إلى الدين متوسطاً بين الألقاب لا في أولها.
الأصل السابع: أن يراعي مقاصد المكاتبات فيأتي لكل مقصد بما يناسبه:
ومدار ذلك على أمرين:
الأمر الأول أن يأتي مع كل كلمة بما يليق بها، ويتخير لكل لفظة ما يشاكلها. قال ابن عبد ربه: وليكن ما تختم به فصولك في موضع ذكر البلوى بمثل: نسأل الله رفع المحذور، وصرف المكروه، وأشباه ذلك. وفي موضع ذكر المصيبة: إنا لله وإنا إليه راجعون. وفي موضع ذكر النعمة: الحمد لله خالصاً، والشكر لله واجباً، وما شاكل ذلك. قال في مواد البيان: وإذا ذكر البلوى شفعها بالاستعانة بالله تعالى والرجوع إليه فيها، ورد الأمر إلى حوله وقوته: قال ابن عبد ربك فإن هذه المواضع مما يتعين على الكاتب أن يتفقدها ويتحفظ فيها، فإن الكاتب إنما يصير كاتباً بأن يضع كل معنًى في موضعه، ويعلق كل لفظ على طبقه في المعنى.
ومما يلتحق بذلك أيضاً أنه إذا ذكر الرئيس في أثناء المكاتبة، دعا له، مثل أن يقول عند ذكر السلطان: خلد الله ملكه. وعند ذكر الأمير الكبير: عز نصره، أو: أعز الله تعالى أنصاره. وعند ذكر الحاكم: أيد الله تعالى أحكامه، وما أشبه ذلك مما يجري هذا المجرى.
الأمر الثاني أن يتخطى التصريح إلى التلويح والإشارة إذا ألجأته الحال إلى المكاتبة بما لا يجوز كشفه وإظهاره على صراحته، مما في ذكره على نصه هتك ستر، أو في حكايته اطراح مهابة السلطان، وإسماعه ما يلزم منه إخلال الأدب في حقه، كما لو أطلق عدوه لسانه فيه بلفظ قبيح يسوءه سماعه. قال في مواد البيان: فيحتاج المنشيء إلى استعمال التورية في هذه المواضع، والتلطف في العبارة عن هذه المعاني، وإبرازها في صورةٍ تقتضي توفية حق السلطان في التوقير والإجلال والإعظام، والتنزيه عن المخاطبة بما لا يجوز إمراره على سمعه، وإيصال المعنى إليه من غير خيانةٍ في طي ما لا غنًى به عن علمه. قال: وهذا مما لا يستقل به إلا المبرز في الصناعة، المتصرف في تأليف الكلام.
الأصل الثامن: أن يعرف مقدار فهم كل طبقة من المخاطبين في المكاتبات من اللسان فيخاطب كل أحد بما يناسبه من اللفظ وما يصل إليه فهمه من الخطاب:
قال أبو هلال العسكري في كتابة الصناعتين: أول ما ينبغي أن تستعمل في كتابك مكاتبة كل فريق على مقدار طبقتهم في الكلام وقوتهم في المنطق. قال: والشاهد على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يكتب إلى أهل فارس، كتب إليهم بما يمكنهم ترجمته فكتب إليهم: «من محمد رسول الله إلى كسرى أبرويز عظيم فارس، سلامٌ على من اتبع الهدى وآمن بالله ورسوله، وأدعوك بدعاية الله فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة» لينذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين «فأسلم تسلم، وإن أبيت فإثم المجوس عليك» فسهل رسول الله صلى الله عليه وسلم الألفاظ غاية التسهيل حتى لا يخفى منها شيءٌ من له أدنى معرفةٍ بالعربية.
ولما أراد أن يكتب إلى قوم من العرب، فخم اللفظ لما عرف من قوتهم على فهمه، وعادتهم بسماع مثله، فكتب لوائل بن حجر الحضرمي: «من محمد رسول الله إلى الأقيال العباهلة من أهل حضرموت بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة. على التيعة الشاة، والتيمة لصاحبها، وفي السيوف الخمس، لا خلاط، ولا ورط، ولا شناق، ولا شغار، ومن أجبى فقد أربى، وكل مسكر حرام».
وقد ذكر العسكري أيضاً في باب الإطناب ما يحسن أن يكون شاهداً لذلك من القرآن الكريم فقال: قد رأينا أن الله تعالى إذا خاطب العرب والأعراب، أخرج الكلام مخرج الإشارة والوحي كما في قوله تعالى خطاباً لأهل مكة {إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب} وقوله: {أو ألقى السمع وهو شهيدٌ} في أشباهٍ كثيرةٍ لذلك. وإذا خاطب بني إسرائيل أو حكى عنهم، جعل الكلام مبسوطاً، كما في سورة طة وأشباهها، حتى إنه قلما تجد قصةً لبني إسرائيل في القرآن إلا مطولة مشروحةً ومكررةً في مواضع معادةً، لبعد فهمهم، وتأخر معرفتهم.
قال في مواد البيان: فيجب على الكاتب أن يتنقل في استعمال الألفاظ على حسب ما تقتضيه رتب الخطاب والمخاطبين، وتوجبه الأحوال المتغايرة، والأوقات المختلفة، ليكون كلامه مشاكلاً لكل منها، فإن أحكام الكلام تتغير بحكم تغير الأزمنة والأمكنة ومنازل المخاطبين والمكاتبين.
قال: ولتحري الصدر الأول من الكتاب إيقاع المناسبة بين كتبهم وبين الأشياء المتقدمة الذكر استعمل كتاب الدولة الأموية من الألفاظ العربية الفحلة، والمتينة الجزلة، ما لم تستعمل مثله الدولة العباسية، لأن كتاب الدولة الأموية قصدوا ما شاكل زمانهم الذي استفاضت فيه علوم العرب ولغاتهم، حتى عدت في جملة الفضائل التي يثابر على اقتنائها، والأمكنة التي نزلها ملوكهم من بلاد العرب، والرجال الذين كانت الكتب تصدر إليهم، وهم أهل الفصاحة واللسن والخطابة والشعر.
أما زمان بني العباس، فإن الهمم تقاصرت عما كانت مقبلة على تطلبه فيما تقدم من العلوم المقدم ذكرها، وشغلت بغيرها من علوم الدين، ونزل ملوكهم ديار العراق وما يجاورها من بلاد فارس، وليس استفاضة لغة العرب فيها كاستفاضتها في أرض الحجاز والشام. ومن المعلوم أن القوم الذين كانوا يكاتبون عنهم لا يجارون تلك الطبقة في الفصاحة والمعرفة بدلالات الكلام، فانتقل كتابها من اللفظ المتين الجزل، إلى اللفظ الرقيق السهل، وكذلك انتقل متأخرو الكتاب عن ألفاظ المتقدمين إلى ما هو أعذب منها وأخف، للمعنى المتقدم ذكره.
قال: وحينئذ ينبغي للكاتب أن يراعي هذه الأحوال، ويوقع المشاكلة بين ما يكتبه وبينها، فإذا احتاج إلى إصدار كتاب إلى ناحيةٍ من النواحي، فلينظر في أحوال قاطنيها، فإن كانوا من الأدباء البلغاء العارفين بنظم الكلام وتأليفه، فليودع كتابه الألفاظ الجزلة، التي إذا حليت بها المعاني زادتها فخامة في القلوب، وجلالةً في الصدور، وإن كانوا ممن لا يفرق بين خاص الكلام وعامه، فليضمن كتابه الألفاظ التي يتساوى سامعوها في إدراك معانيها، فإنه متى عدل عن ذلك ضاع كلامه، ولم يصل معنى ما كتب فيه إلى من كاتبه، لأن الكلام البليغ إنما هو موضوعٌ بإزاء أفهام البلغاء والفصحاء، فأما العوام والحشوة، فإنما يصل إلى أفهمامهم الكلام العاطل من حلى النظم، العاري من كسوة التأليف، فيجب على الكاتب أن يستعمل في مخاطبة من هذه صورته أدنى رتب البلاغة وأقربها من أفهام العامة والأمم الأعجمية إذا كتب إليهم.
ثم قال: فأما الكتب المعتدة عن السلطان، فإن منها كتب الفتوحات والسلامات ونحوها، وهي محتملةٌ للألفاظ الفصيحة الجزلة، والإطالة القاضية بإشباع المعنى، ووصوله إلى أفهام كافة سامعيه من الخاص والعام، ومنها كتب الخراج وجبايته وأمور المعاملات والحساب، وهي لا تحتمل اللفظ الفصيح، ولا الكلام الوجيز، لأنها مبنية على تمثيل ما يعمل عليه، وإفهام من لا يصل المعنى إلى فهمه إلا بالبيان الشافي في العبارة. ومنها مخاطبته السلطان عن نفسه، فيجب فيها مخاطبته على قدر مكانه من الخدمة من الألفاظ المتوسطة، ولا يجوز أن يستعمل فيها الفصيحة التي لا تحتمل من تابع فيحق متبوع، لما فيه من تعاطي التفاصح على سلطانه، وهو غير جائز في أدب الملوك، وكذلك لا يجوز فيه تعاطي الألفاظ المبتذلة الدائرة بين السوقة، لما في ذلك من الوضع من السلطان بمقابلته إياه بما لا يشبه رتبته.
وأما الكتب الإخوانيات النافذة في التهاني والتعازي، فإنها تحتمل الألفاظ الغربية القوية الأخذ بمجامع القلوب، الواقعة أحسن المواقع من النفوس، لأنها مبنية على تحسين اللفظ، وتزيين النظم، وإظهار البلاغة فيها مستحسنٌ واقعٌ موقعه.
قلت: والذي تراعى الفصاحة والبلاغة فيه من المكاتبات عن الأبواب السلطانية في زماننا مكاتبات ملوك المغرب كصاحب تونس، وصاحب تلمسان، وصاحب فاس، وصاحب غرناطة من الأندلس، وكذل القانات العظام من ملوك المشرق ومن يجري هذا المجرى، ممن تشتمل بلاده على العلماء بالبلاغة وصناعة الكتابة. ويظهر ذلك بالاستخبار عن بلادهم، وبالاطلاع على كتبهم الصادرة عن ملوكهم إلى الأبواب السلطانية، بخلاف من لا عناية له بذلك كحكام أصاغر البلدان وأصحاب اللغات العجمية من الروم والفرنج والسودان ومن في معناهم، فإنه يجب خطابهم بالألفاظ الواضحة، إلا أن يكو في بعض بلادهم من يتعاطى البلاغة من الكتاب ووردت كتبهم على نهجها فإنه ينبغي مكاتبتهم على سنن البلغاء.
الأصل التاسع: أن يراعي رتبة المكتوب عنه والمكتوب إليه في الخطاب فيعبر عن كل واحدٍ منهما في كل مكاتبة بما يليق به ويخاطب المكتوب إليه بما يقتضيه مقامه:
فأما المكتوب عنه، فيختلف عنه والمكتوب إليه في الخطاب، فيعبر عن كل واحد منهما في كل مكاتبة بما يليق به، ويخاطب المكتوب إليه بما يقتضيه مقامه فأما المكتوب عنه، فيختلف الحال فيه باختلاف منصبه ورتبته.
فأن كان المكتوب عن خليفهً، فقد جرت عادة من الكتاب بالتعبير عنه في الكتب الصادرة عن أبواب الخلافة بأمير المؤمنين، مثل أن يقال: فجرى أمر أمير المؤمنين في كذا على كذا وكذا، وأوعز أمير المؤمنين إلى فلان بكذا، وآقتضى رأي أمير المؤمنين كذا، وخرج أمير المؤمنين بكذا، وتقدم أمير المؤمنين إلى فلان بكذا، وما شاكل ذلك. وربما عبر عنه بالسلطان، مثل أن يقال في حق المخالفين وحاربوا عساكر السلطان، أو ومنعوا خراج السلطان وما أشبه ذلك، يريدون الخليفة، على ما ستقف عليه في الكتب التي نوردها في المكتابات عن الخلفاء فيما بعد إن شاء الله تعالى.
وقال ابن شيث في معالم الكتابة: ويخاطب بالمواقف المقدسة الشريفة، والعتبات العالية، ومقر الرحمة، ومحل الشرف. وذكر المقر الشهابي بن فضل الله في التعريف نحوه، فقال: ويخاطب بالديوان العزيز، والمقام الأشرف، والجانب الأعلى أو الشريف، وبأمير المؤمنين، مجردةً عن سيدنا ومولانا، ومرةً غير مجردة، مع مراعاة المناسبة، والتسديد والمقاربة. قال: وسبب الخطاب بالديوان العزيز الخضعان عن مخاطبة الخليفة نفسه، وتنزيل الخطاب منزلة من يخاطب نفس الديوان، والمعني به ديوان الإنشاء، إذ كتب وأنواع المخاطبات إليه واردةٌ وعنه صادرةٌ.
وقد سبق في الكلام على الألقاب في المقالة الثالثة نقلاً عن ابن حاجب النعمان في ذخيرة الكتاب إنكار هذه الاستعارات والمخترعات، وسيأتي في المكاتبة إلى الخلفاء ذكر ترتيبها إن شاء الله تعالى.
وإن كان المكتوب عنه ملكاً، فقد جرت العادة أن يعبر عنه بنون الجمع للتعظيم فيقال: فعلنا كذا، وأمرنا كذا، واقتضت آراؤنا الشريفة كذا، وبرزت مراسيمنا بكذا، ومرسومنا إلى فلان أن يتقدم بكذا، أو يتقدم أمره بكذا، وما أشبه ذلك. وذلك أن ملوك الغرب كانوا يجرون على ذلك في مخاطباتهم، فجرت الملوك على سننهم في ذلك. وفي معنى الملوك في ذلك سائر الرؤساء، من الأمراء، والوزراء، والعلماء، والكتاب، ونحوهم من ذوي الأقدار العلية، والأخطار الجليلة، والمراتب السنية في الدين والدنيا، ممن يصلح أن يكون آمراً وناهياً، إذا كتبوا إلى أتباعهم ومأموريهم، إذ كانت هذه النون مما يختص بذوي التعظيم دون غيرهم. وشاهد ذلك من القرآن الكريم قوله تعالى: {حتى إذا حضر أحدهم الموت قال رب ارجعون} فدعاه دعاء المفرد لعدم المشاركة له في ذلك الاسم، وسأله سؤال الجمع لمكان العظمة، إلى غير ذلك من الآيات الواردة مورد الاختصاص له كما في قوله تعالى: {إنا نحن نرث الأرض ومن عليها} وقوله: {إنا نحن نحيي الموتى} وقوله: {نحن الوارثون} وغير ذلك من الآيات. قال في معالم الكتابة: وقد أخذ كتاب المغرب بهذا مع ولاة أمورهم في الجمع بالميم فخاطبوا الواحد مخاطبة الجمع مثل: أنتم، وفعلتم، وأمرتم، وما أشبه ذلك.
قلت: والأمر في ذلك عندهم مستمر إلى الآن. قال ابن شيث: وهو غير ما صور به عند غيرهم.
وإن كان المكتوب عنه مرؤوساً بالنسبة إلى المكتوب إليه كالتابع ومن في معناه، فقال في مواد البيان: يبنغي أن يتحفظ في الكتب النافذة عنه من الإتيان بنون العظمة وغيرها من الألفاظ التي فيها تعظيم شأن المكتوب عنه مثل أن يقول: أمرت بكذا، أو نهيت عن كذا، أو أوعزت بكذا، أو تقدم أمري إلى فلان بكذا، أو أنهي إلي كذا، أو خرج أمري بكذا، وما في معنى ذلك مما لا يخاطب به الأتباع رؤساءهم، بل يعدل عن مثل هذه الألفاظ إلى ما يؤدي إلى معناها مما لا عظمة فيه، مثل أن يقول: وجدت صواب الرأي كذا ففعلته، ورأيت السياسة تقتضي كذا فأمضيته، وما أشبه ذلك، إن كان عرف الكتاب على الخطاب بالتاء، وإلا قال: وجد المملوك صواب الرأي كذا ففعله، ورأى السياسة تقتضي كذا فأمضاه، وما يجري هذا المجرى.
وأما المكتوب إليه، فقال أبو هلال العسكري في كتابه الصناعتين: ينبغي أن يعرف قدر المكتوب إليه من الرؤساء، والنظراء، والعلماء، والوكلاء، ليفرق بين من يكتب إليه أنا أفعل كذا ومن يكتب إليه نحن نفعل كذا فأنا من كلام الأشباه والإخوان، ونحن من كلام الملوك، ويفرق بين من يكتب إليه فإن رأيت أن تفعل كذا وبين من يكتب إليه: فرأيك. قال في مواد البيان: وذلك إن قولهم فإن رأيت أن تفعل كذا لفظ النظراء والمساوين، بخلاف فرأيك، فإنه لا يكتبه إلا جليلٌ معظم، لتضمنها معنى الأمر والتقدير فر رأيك، بخلاف فإن رأيت، فإنه لا أمر فيه، إذ يقال: فإن رأيت أن تفعل كذا فافعله. على أن الأخفش قد أنكر هذا على الكتاب، لأن أقل الناس يقول للسلطان: انظر في أمري، ولفظه لفظ الأمر ومعناه السؤال. وذكر مثله في صناعة الكتاب عن النحويين. قال في مواد البيان: وحجة الكتاب أن المشافهة تحتمل ما لا تحتمله المكاتبة، لأن المشافهة حاضرٌ يحضر الإنسان لا يمكنه تقييده وترتيبه، والمكاتبة بخلاف ذلك، فلا عذر لصاحبها في الإخلال بالأدب. قال ابن شيث: وقد اصطلحوا على أن يكتب في أواخر الكتب: وللآراء العالية فضل السمو والقدرة إن شاء الله تعالى. ودون ذلك: وللرأي السامي حكمه ودونه: والرأي أعلى. ودونه: والرأي موفق وموفقاً بالرفع والنصب. ودونه: ورأيه للمجلس: ورأيها للحضرة. قال: وربما قالوا: فإن رأى مولانا أن يكون كذا وكذا أمر به أو فعل إلا أنها لا تقوم مقام قوله: والرأي أعلى. فأما لمن دونه فيحتمل. وذكر أنه كان مصطلحهم أن يقال في آخر الكتاب السلطان: فاعلم ذلك واعمل به إن شاء الله تعالى. وإن أعيان أصحاب الأقلام كانوا يكتبوبه إلى من دونهم.
قلت: والذي استقر عليه الحال في مثل ذلك: وللآراء العالية مزيد العلو وأن تختم الكتابة للأكابر بمثل: فنحيط علمه بذلك ولمن دونهم: فنحيط بذلك علماً، وللأصاغر: فليعلم ذلك ويعتمده ونحو ذلك. قال محمد بن إبراهيم الشيباني: إن احتجت إلى مخاطبة الملوك والوزراء والعلماء والكتاب والأدباء والخطباء وأوساط الناس وسوقتهم، فخاطب كلاًّ منهم على قدر أبهته وجلالته وعلوه وارتفاعه وفطنته وانتباهه. ولكل طبقة من هذه الطبقات معانٍ ومذاهب يجب عليك أن ترعاها في مراسلتك إياهم في كتبك، وتزن كلامك في مخاطبتهم بميزانه، وتعطيه قسمته، وتوفيه نصيبه، فإنه متى أهملت ذلك وأضعته، لم آمن عليك أن تعدل بهم عن طريقتهم، وتسلك بهم غير مسلكهم، وتجري شعاع بلاغتك في غير مجراه، وتنظم جوهر كلامك في غير سلكه، فلا تعتد بالمعنى الجزل ما لم تكسه لفظاً مختلفاً على قدر المكتوب إليه، فإن إلباسك المعنى وإن صح إذا أشرب لفظاً لم تجربه عادة المكتوب إليه تهجينٌ للمعنى، وإخلالٌ لقدر المكتوب إليه، وظلمٌ يلحقه، ونقصٌ مما يجب له، كما أن في اتباع متعارفهم، وما انتشرت به عادتهم، وجرت به سنتهم، قطعاً لعذرهم، وخروجاً عن حقهم، وبلوغاً إلى غاية مرادهم، وإسقاطاً لحجة أدبهم. قال ابن عبد ربه: فامتثل هذه المذاهب وأجر عليها القوم.
قال في مواد البيان: وذلك أن المعاني التي يكتب فيها وإن كان كلٌّ منها جنساً بعينه، كالتهنئة والتعزية والاعتذار والعتاب والاستظهار ونحو ذلك، فإنه لا يجوز أن يخرج المعنى لكل مخاطبٍ على صيغةٍ واحدةٍ من اللفظ، بل ينبغي أن يخرج في الصيغة المشاكلة للمخاطب، اللائقة بقدره ورتبته. ألا ترى أنك لو خاطبت سلطاناً أو وزيراً بالتعزية عن مصيبةٍ من مصائب الدنيا، لما جاز أن تبني الكلام على وعظه وتبصيره وإرشاده وتذكيره وحضه على الأخذ بحظ من الصبر، ومجانبة الجزع، وتلقي الحادثات بالتسليم والرضا، وإنما الصواب أن تبني الخطاب على أنه أعلى شاناً، وأرفع مكاناً، وأصح حزماً، وأرجح حلماً، من أن يعزى، بخلاف المتأخر في الرتبة، فإنه إنما يعزى تنبيهاً وتذكيراً، وهدايةً وتبصيراً، ويعرف الواجب في تلقي السراء بالشكر، والضراء بالصبر، ونحو ذلك.
292- وكذلك إذا كاتبت رئيساً في معنى الاستزادة والشكوى، لا يجوز أن تأتي بمعناهما في ألفاظهما الخاصة، بل يجب أن تعدل عن ألفاظ الشكوى إلى ألفاظ الشكر، وعن ألفاظ الاستزادة إلى ألفاظ الاستعطاف والسؤال في النظر، لتكون قد رتبت كلامك في رتبته، وأخرجت معناك مخرج من يستدعي الزيادة لا من يشكو التقصير.
قال ابن شيث في معالم الكتابة: ولا يخاطب السلطان في خلال الكتابة إليه بسيدنا مكان مولانا، فإن سيدنا كأنها خصصت بأرباب المراتب الدينية والديوانية، ومولانا تخص السلطان وحده، وإن كان من نعوت السلطان السيد الأجل.
قال: على أن ذلك مخالف لمذهب المغاربة، فإنهم يعبرون عن ولاة أمورهم بالسادة، ويعبرون عن صاحب الأمر بسيدنا، وكأن هذا كان في زمانه، وإلا فالمعروف عند أهل المغرب والأندلس الآن التعبير عن السلطان بالمولى، يقول أحدهم مولانا فلان. وأهل مصر الآن يطلقون السادة على أولاد الملوك.
وكذلك لو وقع واقع للسلطان فنصحته لم يجز أن تورد ذلك مورد التنبيه على ما أغفله، والإيقاظ لما أهمله، والتعريف من الصواب لما جهله، لأن ذلك من القبيح الذي لا يحتمل الرؤساء من الأتباع، ولكن تبني الخطاب على أن السلطان أعلى وأجل رأياً، وأصح فكراً، وأكثر إحاطةً بصدور الأمور وأعجازها، وأن آراء خدمه جزء من رأيه، وأنهم إنما يتفرسون مخايل الإصابة بما وقفوا عليه من سلوك مذهبه، والتأدب بأدبه، والارتياض بسياسته، والتنقل في خدمته، وإن مما يفرضونه في حكم الإشفاق والاهتمام، وما يسبغ عليهم من الإنعام، المطالعة بما يجري في أوهامهم، ويحدث في أفكارهم، من الأمور التي يتخيلون أن في العمل بها مصلحة للدولة، وعمارةً للمملكة، ليتصفحه بأصالة رأيه التي هي أوفر وأثبت. فإن استصوبه أمضاه، وإن رأى خلافه ألغاه، وكان الرأي الأعلى ما يراه، إلى غير ذلك مما يجري هذا المجرى.
قال ابن شيث في معالم الكتابة: ولا يقارن الكاتب السلطان في تكرار المواضع التي يقع الالتباس فيها بين الكاتب والمكتوب إليه، لأن هاء الضمير تعود عليهما معاً لما تقدم من ذكرهما، وإن كان في القرينة ما يدل على ذلك بعد الفكرة وإذا ابتدأ معهم بالمملوك لا يقال بعد ذلك العبد ولا الخادم، وإن كان ذلك جائزاً مع غير السلطان.
قال: ولا بأس بتكرار الإشارة إلى السلطان في المواضع التي يجمل فيها الاشتراك بينه وبين المكتوب إليه، مثل أن يقال: وكان قد ذكر كذا وكذا، والضمير في كان يصلح لهما معاً، فلابد هنا من ذكر المملوك، إن كان الالتباس من جهة الكاتب، أو مولانا إن كانت الإشارة إلى السلطان.
الأصل العاشر: أن يراعي مواقع آيات القرآن والسجع في الكتب وذكر أبيات الشعر في المكاتبات:
أما آيات القرآن الكريم، فقد ذكر ابن شيث في معالم الكتابة أنها في صدر الكتب، قد يذكرها الأدنى للأعلى في معنى ما يكتب به، مثل قوله تعالى: {فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيراً} وقوله تعالى: {وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور} إلى غير ذلك من الآيات المناسبة للوقائع وإن كانت في أثناء الكتب، فقد استشهد بها جماعةٌ من الكتاب في خلال كتبهم مما رأيته.
وأما السجع، فقد ذكر ابن شيث: أنه لا يفرق فيه بين كتاب الأعلى للأدنى وبالعكس، وأنه بما يكتب عن السلطان أليق، لكن قد ذكر بعض المتأخرين أنه الكتابة بالسجع نقصٌ في حق المكتوب إليه، وقضيته أنه لا يكتب به إلا من الأعلى للأدنى، إلا أن الذي جرى عليه مصطلح كتاب الزمان تخصيصه ببعض الكتب دون بعض من الجانبين.
وأما الشعر فيورده حيث يحسن إيراده، ويمنعه حيث يحسن منعه، فليس كل مكاتبة يحسن فيها إيراد الشعر، بل يختلف الحال في ذلك بحسب المكتوب عنه والمكتوب إليه. فأما المكاتبات الصادرة عن الملوك والصادرة إليهم، فقد ذكر في مواد البيان أنه لا يتمثل فيها بشيءٍ من الشعر، إجلالاً لهم عن شوب العبارة عن عزائم أوامراهم ونواهيهم والأخبار المرفوعة إليهم، بما يخالف نمطها ووضعها، ولأن الشعر صناعةٌ مغايرة لصناعة الترسل، وإدخال بعض صنائع الكلام في بعض غير مستحسن.
قلت: الذي ذكره عبد الرحيم بن شيث في كتابة معالم الكتابة ومواضع الإصابة أنه يتمثل بالشعر في المكاتبات الصادرة عن الملوك دون غيرهم، وهو معارضٌ لما ذكره في مواد البيان. وكأنه في مواد البيان يريد الكتب النافذة عن الملوك إلى من دونهم، أو ممن دونهم إليهم. أما الملوك والخلفاء إذا كتبوا إلى من ضاهاهم في أبهة الملك وقاربهم في علو الرتبة، فإنه لا يمنع التمثل بأبيات الشعر فيها، تطريزاً للنثر بالنظم، وجميعاً بين جنسي الكلام اللذين هما خلاصة مقاصده. وما زالت الخلفاء والملوك السالفة يخللون كتبهم الصادرة عنهم إلى نظرائهم في علو الرتبة بالأبيات الرقيقة الألفاظ، البديعة المعاني، للاستشهاد على الوقائع المكتوب بسببها، كما كتب أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه حين تمالأ عليه القوم واجتمعوا على قتله إلى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: [طويل]
فإن كنت مأكولاً فكن خير آكلٍ ** وإلا فأدركني ولما أمزق

وكما يكتب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه! إلى معاوية بن أبي سفيان، في جواب كتاب له حين جرى بينهما التنازع في الخلافة، فقال في أثناء كتابه: وزعمت أني لكل الخلفاء حسدت، وعلى كلهم بغيت، فإن يك ذلك كذلك فليست الجناية عليك، فيكون العذر إليك: [طويل]
وتلك شكاةٌ ظاهرٌ عنك عارها

وعلى ذلك جرى كثيرٌ من خلفاء الدولتين الأموية والعباسية، كما حكى العسكري في الأوائل أن أهل حمص وثبوا بعاملها فأخرجوه، ثم وثبوا بعده بعامل آخر، فأمر المتوكل إبراهيم بن العباس أن يكتب إليهم كتاباً يحذرهم فيه ويختصر، فكتب.
أما بعد، فإن أمير المؤمنين يرى من حق الله تعالى عليه فيما قوم به من أود أو عدل به من زيغ، أو لم به من شعث، ثلاثاً يقدم بعضهن أمام بعضٍ، فأولاهن ما يستظهر به من عظةٍ وحجة، ثم ما يشفعه من تحذير وتنبيه، ثم التي لا ينفع حسم الداء غيرها: [طويل]
أناةٌ فإن لم تغن عقب بعدها ** وعيدٌ فإن لم يجد أجدت عزائمه

وممن كان يكثر التمثل بالشعر في المكاتبات من خلفاء بني العابس وتصدر إليه المكاتبات كذلك الناصر لدين الله حتى يحكى أن الملك الأفضل، علي ابن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب صاحب دمشق حين تعصب عليه أخوه الملك العزيز عثمان وعمه الملك العادل أبو بكر، كتب إلى الناصر لدين الله يستجيشه عليهما كتاباً يشير فيه إلى ما تعتقده الشيعة من أن الحق في الخلافة كان لعلي، وأن أبا بكر وعثمان رضي الله عنهما، تقدماً عليه، إذ كان الناصر يميل إلى التشيع، وكتب فيه: [بسيط]
مولاي إن أبا بكرٍ وصاحبه ** عثمان قد غصبا بالسيف حق علي

فانظر إلى حظ هذا الاسم كيف لقي ** من الأواخر ما لاقى من الأول

فكتب إليه الناصر الجواب عن ذلك، وكتب فيه: [كامل]
وافى كتابك يا ابن يوسف ناطقاً ** بالحق يخبر أن أصلك طاهر

غضبوا علياً حقه إذ لم يكن ** بعد النبي له بيثرب ناصر

فاصبر فإن على الإله حسابهم ** وابشر فناصرك الإمام الناصر

وعلى ذلك جرى الملوك القائمون على خلفاء بني العباس في مكاتباتهم أيضاً. كما كتب أبو إسحاق الصابي عن معز الدولة بن بويه، إلى عدة الدولة أبي تغلب كتاباً يذكر له في خلاف قريبين له، لم يمكنه مساعدة أحدهما على الآخر، واستشهد فيه بقول المتلمس: [طويل]
وما كنت إلا مثل قاطع كفه ** بكفٍّ له أخرى فأصبح أجذما

فلما استقاد الكف بالكف لم يجد ** له دركاً في أن تبينا فأحجما

وعلى هذا النهج جرى الحال في الدولة الأيوبية بالديار المصرية. كما كتب القاضي الفاضل عن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب إلى ديوان الخلافة ببغداد، عند قتل ابن رئيس الرؤساء وزير الخليفة كتاباً ليسلي الخليفة عنه، وكان ممن أساء السيرة وأكثر الفتك، متمثلاً بالبيتين المقولين في أبي حفص الخلال، وزير أبي العباس السفاح، وكان يعرف بوزير آل محمد: [كامل]
إن المكاره قد تسر وربما ** كان السرور بما كرهت جدير

إن الوزير وزير آل محمدٍ ** أودى فمن يشناك كان وزيراً

وكما كتب القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر عن المنصور قلاوون إلى صاحب اليمن في جواب تعزية أرسلها إليه في ولده الملك الصالح، مع تعريضه في أمرٍ له بأن الحروب مما يشغل عن المصائب في الأولاد، مستشهداً فيه بقوله: [وافر]
إذا اعتاد الفتى خوض المنايا ** فأهون ما تمر به الوحول

وكما كتب صاحبنا الشيخ علاء الدين البيري، رحمه الله، عن الظاهر برقوق صاحب الديار المصرية، جواباً لصاحب تونس من بلاد المغرب، واستشهد فيه لبلاغة الكتاب الوارد عنه بقوله: [خفيف]
وكلام كدمع صب غريبٍ ** رق حتى الهواء يكثف عنده

راق لفظاً ورق معنًى فأضحى ** كل سحرٍ من البلاغة عبده

وعلى ذلك جرت ملوك المغرب من بني مرينٍ وغيرهم. كما كتب بعض كتاب السلطان أبي الحسن المريني عنه إلى السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون صاحب الديار المصرية كتاباً يخبره في خلاله أن صاحب بجاية خرج عن طاعته فغزاه، وأوقع به وبجيوشه ما قمعه، مستشهداً فيه بقوله: [سريع]
إن عادت العقرب عدنا لها ** وكانت النعل لها حاضره

إلى غير ذلك من المكاتبات الملوكية التي لا تحصى كثرةً. بل ربما وقع التمثيل بالشعر في المكاتبات عن الخلفاء والملوك إلى من دوهم وبالعكس.
كما حكى العسكري في الأوائل أن رافعاً رفع كتاباً إلى الرشيد، وكتب في أسفله: [طويل]
إذا جئت عاراً أو رضيت بذلة ** فنفسي على نفسي من الكلب أهون

فكتب إليه الرشيد كتاباً وكتب في أسفله، [طويل]
ورفعك نفساً طالباً فوق قدرها ** يسوق لك الحتف المعجل والذلا

وبالجملة فمذاهب الناس في التمثل بالشعر في المكاتبات الملوكية مختلفةٌ، ومقاصدهم متباينةٌ بحسب الأغراض، ولذلك أورد الشيخ جمال الدين بن نباتة هذه المسألة في جملة أسؤولته، التي سأل عنها كتاب الإنشاء بدمشق، مخاطباً بها الشيخ شهاب الدين محموداً الحلبي، وهو يومئذ صاحب ديوان الإنشاء بها فقال: ومن كره الاستشهاد في مكاتبة الملوك بالأشعار؟ وكيف تركها على ما فيها من الأثار؟
أما المكاتبات الإخوانيات الواقعة بالتهاني، والتعازي، والتزاور، والتهادي، والمداعبة، وسائر أنواع الرقاع في فنون المكاتبات، فقد قال في مواد البيان: إنه يجوز أن تودع أبيات الشعر على سبيل التمثل وعلى سبيل الاختراع، محتجاً بأن الصدر الأول كانوا يستعملون ذلك في هذه المواضع. وهذا الذي ذكره لا خفاء فيه، وكتب الرسائل المدونة من كلام المتقدمين والمتأخرين من كتاب المشرق والمغرب شاهدةٌ بذلك، ناطقةٌ باستعمال الشعر في المكاتبات، وأثنائها ونهاياتها، ما بين البيت والبيتين فأكثر، حتى القصائد الطوال. وأكثر ما يقع من ذلك البيت المفرد والبيتان فما حول ذلك. كما استشهد القاضي الفاضل في بعض مكاتباته في الشوق بقوله: [طويل]
ومن عجبي أني أحن إليهم ** وأسأل عنهم من أرى وهم معي

وتطلبهم عيني وهم في سوادها ** ويشتاقهم قلبي وهم بين أضلعي

وكما كتب أيضاً لبعض إخوانه في جواب كتاب: [طويل]
وكم قلت حقاً ليتني كنت عنده ** وما قلت إجلالاً له ليته عندي

وكما كتب في وصف كتابٍ ورد عليه مستشهداً بقوله: [كامل]
وحسبته والطرف معقود به ** وجه الحبيب بدا لوجه محبه

وكما كتب في كتاب تعزية بصديقٍ مستشهداً فيه بقوله: [طويل]
وذاك الذي لا يبرح الدهر رزؤه ** ولا ذكره ما أرزمت أم حائل

إلى غير ذلك من المكاتبات التي لا يأخذها حصر، ولا تدخل تحت حد، مما ستقف على الكثير منه في الكلام على مقاصد المكاتبات، إن شاء الله تعالى.
الأصل الحادي عشر: أن يأتي في مكاتبته بحسن الاختتام:
ويرجع إلى معنيين كما في حسن الافتتاح المقدم ذكره:
المعنى الأول: أن يكون الحسن فيه راجعاً إلى المعنى المختتم به، إما بمعاطاة الأدب من المرؤوس إلى الرئيس ونحو ذلك، وإما بما يقتضي التعزيز والتوقير من الرئيس إلى المرؤوس، كالاختتام بالدعاء ونحو ذلك، مما يقع في مصطلح كل زمن.
المعنى الثاني: أن يكون الحسن فيه راجعاً إلى ما يوجب التحسين من سهولة اللفظ، وحسن السبك، ووضوح المعنى، وتجنب الحشو، وغير ذلك من موجبات التحسين، كما كتب الصاحب بن عباد في آخر رسالة له: لئن حنثت فيما حلفت، فلا خطوت لتحصيل مجد، ولا نهضت لاقتناء حمد، ولا سعيت إلى مقام فخر، ولا حرصت على علو ذكر. قال أبو هلال العسكري: فهذه اليمين، لو سمعها عامر بن الظرب، لقال هي اليمين الغموس لا القسم باللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، ونحو ذلك مما يجري هذا المجرى.
قلت: واعتبار هذه الأصول الأحد عشر بعد ما تقدم اعتباره في الكلام على صنعة إنشاء الكلام وترتيبه في المقالة الأولى، من أنه لا يستعمل في كلامه ما أتت به آيات القرآن الكريم، من الاختصار، والحذف، ومخاطبة الخاص بمخاطبة العام، ومخاطبة العام بمخاطبة الخاص، ولا ما يختص بالشعر من صرف ما لا ينصرف، وحذف ما لا يحذف، وقصر الممدود، ومد المقصور، والتقديم والتأخير، والإضمار في موضع الإظهار، وتصغير الاسم في موضع التعظيم، مثل دويهيةٍ، وما شاكل ذلك مما تقدم التنبيه عليه في موضعه، فلا بد من اعتباره هنا.
الأصل الثاني عشر: أن يعرف مقادير قطع الورق وسعة الطرة والهامش وسعة بيت العلامة ومقدار ما بين السطور وما يترك في آخر الكتاب:
إما مقدار قطع الورق، فقد تقدم في المقالة الثالثة أنه يختلف باختلاف المكتوب إليهم عن السلطان، فكلما عظم قدر المكتوب إليه، عظم مقدار قطع الورق، وربما روعي في ذلك قدر المكتوب عنه والمكتوب إليه جميعاً.
وأما طول الطرة في أعلى الكتاب، فقد ذكر في معالم الكتابة أنها تطول فيما إذا كان الكتاب من الأعلى إلى الأدنى، وتكون متوسطة من الأتباع، وسيأتي أن المصطلح عليه في زماننا إلى المكاتبات الصادرة عن السلطان تكون الطرة فيها ما بين ثلاثة أوصال إلى وصلين، ومن النواب ومن في معناهم تكون وصلاً واحداً.
وأما مقدار سعة الهامش فقد سمعت بعض فضلاء الكتاب يذكر أن الضابط فيه أن يكون ثلث عرض الدرج المكتوب فيه.
وأما بيت العلامة فقد تقدم أنه يكون مقدار نحو شبر في كتب السلطان، أما في غيره حيث كانت العلامة تحت البسملة فتكون نحو ثلاثة أصابع أو أربعةٍ.
وأما سعة ما بين السطور فقد تقدم أنها تكون بمقدار نصف بيت العلامة. وذكر ابن شيث أنها ثلاثة أصابع أو أربعة.
وأما ما يترك في آخر الكتاب فقد ذكر ابن شيث أنه لا يترك في آخر المكاتبة شيئاً.
وأما الخط فإنه كلما غلظ القلم واتسعت السطور كان أنقص في رتبة المكتوب إليه وقد ذكر في معالم الكتابة أن الكتب الصادرة إلى السلطان لا يكون بين سطورها أكثر من إصبعين.